الأزمة الأوكرانية- تركيا بين مطرقة روسيا وسندان الغرب ar-BH

ألقت الأزمة الأوكرانية الراهنة، والتي تحتدم بين روسيا من جانب، والتكتل الغربي بقيادة الولايات المتحدة من جانب آخر، بآثارها الوخيمة على الساحة السياسية الدولية وتوازناتها الدقيقة، وشمل ذلك العلاقات التركية مع كلا الطرفين، مما أضفى عليها طابعًا فريدًا ومغايرًا لما كانت عليه في السنوات القليلة الماضية.
إذ أن هذه الأزمة المستجدة – بما تنطوي عليه من احتمالات لتصعيد عسكري خطير – قد تفتح فصلًا جديدًا يتسم بمزيد من الحدة والتوتر في العلاقات بين تركيا والولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي (الناتو)، وقد تعيد أيضًا علاقات أنقرة مع موسكو إلى حقبة سابقة كانت أقل حرارة وتعاونًا نسبيًا.
علاقات يشوبها التوتر
على الرغم من انضمام تركيا إلى عضوية حلف شمال الأطلسي (الناتو) في عام 1952، وتقديمها طلبًا للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي منذ مراحله التأسيسية الأولى، إلا أن علاقاتها مع كلا الجانبين (واشنطن وبروكسل) ظلت معقدة وشائكة ومتداخلة، ثم دخلت في السنوات القليلة الأخيرة مرحلة من التوتر المتزايد والتصعيد الملحوظ.
فقد شهدت العلاقات التركية مع الولايات المتحدة في عهد حزب العدالة والتنمية فترات من المد والجزر، لكن السنوات الأخيرة اتسمت بمرحلة غير مسبوقة من التباعد والافتراق بين "الشريكين الاستراتيجيين". هناك ملفات خلافية جمة ورئيسية تعيق التقارب بين الجانبين؛ وفي مقدمتها دعم واشنطن لقوات سوريا الديمقراطية، التي تعتبرها أنقرة منظمات إرهابية وانفصالية، وتلكؤ الإدارة الأميركية في التعاون مع أنقرة بشأن ملف التنظيم الموازي وزعيمه فتح الله غولن المقيم على الأراضي الأميركية، وصفقة شراء تركيا لمنظومة "إس 400" الدفاعية الروسية، بالإضافة إلى عدد من الملفات الأخرى الأقل أهمية وحساسية.
ونتيجة لذلك، تصاعدت الضغوط الأميركية على تركيا في السنوات الأربع الماضية، وفرضت إدارة الرئيس السابق دونالد ترامب عقوبات اقتصادية استهدفت شخصيات حكومية وأسهمت في تدهور قيمة الليرة التركية في عام 2018. واستمرت إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن على نفس النهج، مما أدى إلى استبعاد تركيا بشكل كامل ونهائي من مشروع مقاتلات "إف 35" التي كانت شريكًا فاعلًا فيه، والتلويح بفرض عقوبات إضافية في حال قامت أنقرة بتفعيل المنظومة الروسية للدفاع الجوي.
ولا يختلف المشهد كثيرًا مع الاتحاد الأوروبي، الذي أعاد تركيا إلى مرحلة ما قبل مفاوضات الانضمام، وجمّد مسار عضويتها فيه، ولم ينفذ بالكامل اتفاقية إعادة اللاجئين التي أبرمها مع الحكومة التركية برئاسة أحمد داود أوغلو في عام 2016. كما فرض الاتحاد الأوروبي عقوبات على شركات وشخصيات تركية على خلفية أنشطة التنقيب التركية عن الغاز في شرق البحر الأبيض المتوسط، وهو الملف الخلافي الأبرز بين أنقرة وبروكسل مؤخرًا، بالإضافة إلى ملف اللاجئين والمسألة الليبية وبعض الملفات الحقوقية، مع وجود تباين واضح بين دولة وأخرى، حيث قادت فرنسا لسنوات حملات بالتنسيق مع اليونان ضد تركيا؛ سعيًا لحمل الاتحاد الأوروبي على اتخاذ موقف أكثر حدة تجاهها.
أزمات مع روسيا
يُضاف إلى ما سبق (أي توتر علاقات تركيا مع حلفائها التقليديين في الغرب، وعلى رأسهم الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وحلف الناتو، وتجاهلهم لما تعتبره أنقرة من مقتضيات أمنها القومي الذي لا تملك رفاهية التساهل فيه) الأمر الواقع الذي فرضته روسيا على تركيا بتدخلها العسكري المباشر في سوريا.
فقد قلبت موسكو موازين المشهد السياسي والعسكري في سوريا، وأصبحت قوة عظمى وخصمًا تاريخيًا على حدود تركيا الجنوبية أيضًا، في ظل ما اعتبرته أنقرة خذلانًا من حلف الناتو لها، مما دفعها إلى التوجه نحو التفاهم مع روسيا بدلًا من الاصطدام بها. وهكذا – بموجب هذين العاملين السابقين – بدت أنقرة في السنوات الماضية أقرب إلى خصمها التقليدي وعدوها التاريخي من حلفائها وشركائها في الناتو. ولكن يبدو أن الأزمات الأخيرة بين روسيا والغرب بقيادة الولايات المتحدة الأميركية قد تدفع نحو متغيرات على هذا الصعيد.
وعلى الرغم من الحديث الأميركي المتكرر عن التركيز على مواجهة الصين، فإن الشهور الأخيرة أعادت إلى الأذهان حقبة الحرب الباردة مرة أخرى، حيث وضعت روسيا في مواجهة الغرب بقيادة واشنطن. وكانت الاحتجاجات التي شهدتها كازاخستان بمثابة اختبار مصغر للتوتر بين الجانبين، لكن الأزمة الأوكرانية نقلت العلاقات بينهما إلى مستوى مختلف تمامًا.
إذ أن جولات عديدة من الحوار بين الجانبين لم تسفر عن نتيجة حاسمة؛ فما زالت روسيا تراهن على عدم رغبة الناتو في مواجهتها عسكريًا في جوارها القريب، وما زالت الولايات المتحدة في المقابل تراهن على عدم قدرة روسيا على تحمل تبعات عقوبات حقيقية وجماعية عليها. ولذلك فقد تواترت رسائل الدعم الأميركية والغربية لأوكرانيا في مواجهة روسيا، والتحذيرات من غزو روسي محتمل، فضلًا عن إرسال أسلحة دفاعية لها، الأمر الذي قرأه البعض على أنه إرهاصات لمواجهة عسكرية محتملة بين الطرفين.
بالنسبة لتركيا، فقد التزمت بموقف حلف الناتو الرافض لأي عمل عسكري روسي، والداعي إلى حل دبلوماسي للأزمة، وإن كانت لهجتها تختلف بطبيعة الحال عن لهجة بعض العواصم الغربية. كما لا تخفي موسكو انزعاجها من قيام أنقرة ببيع كييف طائرات مسيرة استخدمتها أكثر من مرة في الصراع الدائر في منطقة دونباس.
الأزمة الأخيرة أعادت إلى الأذهان الغربية – فيما يبدو – الإدراك بأهمية الدور الذي يمكن أن تلعبه تركيا في أي مواجهة مع روسيا، سواء كانت سياسية أو اقتصادية أو عسكرية، باعتبارها الموازن الإقليمي الأبرز لها في عدة دول ونزاعات. ويبدو الأمر وكأنه عملية عكسية مناقضة للنقاش الذي دار في الغرب بعد انهيار الاتحاد السوفياتي ونهاية الحرب الباردة حول ما إذا كانت هناك حاجة متبقية لتركيا في المنظومة الأطلسية من الأساس.
تركيا بدورها، وانطلاقًا من قراءتها للتطورات الأخيرة وعلاقاتها الجيدة مع كل من روسيا وأوكرانيا ورغبتها في تجنب الارتدادات السلبية لأي تصعيد عسكري، عرضت الوساطة بينهما وجددت دعوتها للتهدئة وتغليب العقل والحلول الدبلوماسية. كما استبعد الرئيس التركي غزو روسيا لأوكرانيا وعدّ ذلك "مقاربة غير منطقية"، مع رسالة ضمنية واضحة لروسيا مفادها أنها لكي تفعل ذلك "عليها أن تعيد النظر في وضعها ووضع العالم بأسره".
لم يتم التعبير عن هذا الإدراك بشكل معلن ومباشر حتى اللحظة، ولكن يمكن قراءته بين سطور الأزمة الأخيرة؛ فأنقرة تعد ركنًا أساسيًا في أي سياسة ترمي إلى مواجهة موسكو مهما كان نوعها أو مستواها؛ فهي منافس تقليدي لروسيا في العديد من القضايا والملفات، بدءًا من سوريا وليبيا وصولًا إلى البحر الأسود ومنطقة البلقان والقوقاز وآسيا الوسطى. وبالتالي، إذا أرادت الولايات المتحدة والناتو إزعاج موسكو في أي ساحة من هذه الساحات، فسوف تحتاج بالتأكيد إلى تركيا.
وبالإضافة إلى كون تركيا ثاني أكبر قوة عسكرية في حلف الناتو، فإنها تمتلك ورقة استراتيجية استثنائية في حال نشوب مواجهة عسكرية مع روسيا، بل حتى في غياب مثل هذه المواجهة، وهي المضائق التي تعد مفتاح البحر الأسود، حيث تمنحها اتفاقية مونترو (لعام 1936) الحق في تحديد أنواع السفن التي يمكن أن تعبر نحو البحر الأسود في حالة نشوب نزاع مسلح.
ونتيجة لما سبق، وإضافة إلى عوامل أخرى، فقد تغيرت اللهجة الأميركية والأوروبية تجاه تركيا مؤخرًا، واختفت لغة التهديدات والضغوط والعقوبات ليحل محلها الحوار والتعاون والتنسيق.
والأكثر من ذلك، ففي العاشر من الشهر الجاري، أبلغت الولايات المتحدة الأميركية كلا من اليونان وتركيا و"إسرائيل" بقرار سحب دعمها عن مشروع "إيست ميد"، وهو مشروع يهدف إلى نقل الغاز الطبيعي إلى أوروبا بشراكة تتضمن اليونان و"إسرائيل" مع تجاهل لتركيا. ونقلت إحدى الصحف التركية عن مجلة "ميلياتر" العسكرية اليونانية أن الولايات المتحدة "تبنت الموقف التركي، وعززت من حجته، وسحقت الموقف اليوناني". وبعد ذلك بأيام، قالت وسائل إعلام تركية إن "اليونان تلقت ضربة ثانية" حين جمّدت شركتا "إكسون موبيل" الأميركية و"توتال" الفرنسية أعمال المسح السيزمي في شرق البحر الأبيض المتوسط في منطقة متنازع عليها بين تركيا واليونان.
هذان الموقفان السابقان – وبغض النظر عن أي أسباب أخرى لهما – تم تقديمهما في إطار تجنب "زعزعة الأمن في المنطقة"، فضلًا عن أنهما يدعمان الرواية التركية بوضوح، ويمسان القضية الأهم مؤخرًا على جدول أعمال السياسة الخارجية التركية، وهي منطقة شرق البحر الأبيض المتوسط، المرتبطة بشكل مباشر بأمن الطاقة والتنافس الجيوسياسي مع الخصم التقليدي لتركيا، أي اليونان.
تركيا بدورها، وانطلاقًا من قراءتها للتطورات الأخيرة وعلاقاتها الجيدة مع كل من روسيا وأوكرانيا، ورغبتها الأكيدة في تجنب الارتدادات السلبية لأي تصعيد عسكري؛ بادرت بعرض الوساطة بين الجانبين، وجددت دعوتها الصادقة للتهدئة وتغليب صوت العقل واللجوء إلى الحلول الدبلوماسية. كما استبعد الرئيس التركي فكرة غزو روسيا لأوكرانيا، واصفًا ذلك بأنه "مقاربة غير منطقية"، مع توجيه رسالة ضمنية واضحة لروسيا مفادها أنه لكي تفعل ذلك "عليها أن تعيد النظر في وضعها ووضع العالم بأسره".
وفي الختام، فإن كل ما سبق لا يعني بأي حال من الأحوال أن تركيا تتجه نحو قطيعة مع روسيا، ولا أن العلاقات معها ستتراجع بالضرورة إلى حد كبير، بل إننا لا نجزم بأن احتمال الحرب في أوكرانيا هو الأرجح أو الحتمي.
ولكن هناك استشعار غربي متزايد لأهمية الأدوار التي يمكن أن تضطلع بها تركيا في مواجهة روسيا، لا سيما إذا استمر التوتر بينهما على المديين المتوسط والبعيد. والأهم من ذلك هو استشعار تركيا نفسها لهذه الأهمية، وبالتالي محاولة استثمار هذه التطورات من أجل تخفيف حدة التوتر في علاقاتها الغربية، وفتح آفاق أرحب للتفاهم والتعاون مع واشنطن وبروكسل في المرحلة المقبلة.
وهذا يعني أن السياسة الخارجية التركية ستعود أقرب نسبيًا إلى مسارها التقليدي في علاقاتها الغربية، ولكن ذلك لن يعني على الإطلاق أنها ستتخلى عن سعيها الحثيث نحو تبني سياسة متعددة المحاور ومتوازنة بين الجانبين قدر الإمكان، وذلك للأسباب المذكورة آنفًا في صدر المقال، وغيرها من الأسباب الأخرى.